[ تندرج هذه القصائد ضمن ملف "الموجة الجديدة في الشعر السوري (أثر الحرب)" الذي ستقوم جدلية بنشره على مدار الأسبوعين القادمين ]
اِذهبْ إلى الحديقة العامة
ياصديقي،
تلك التي بجانب بيتي،
وراقب
كيف يدرّب عاشق مبتدئ
أصابعه على شعر حبيبته المؤقتة
في انتظار جولة بطولية في حلبةِ
حبٍ أبدي لن يأتي
كيف تهدهد فتاة مجدة
كتابها المدرسي كأنه كتاب مقدس
كيف يلبط الولد الإوزة
من غير رحمة
انتقاماً من كف أمه
كيف تنط عارضة الأزياء المتقاعدة في مشيتها
محاولة التذكير بزمنها الغابر
كيف يضحك المشردون الهبيّون
بأفواه خالية من الأسنان
شماتة بربطة عنق الموظف
كيف يسرق بخجل عامل النظافة
عقب سيجارة من كومة الزبالة
كيف يهرول المجنون
مثل خفاش بين الصغار
كأنما يبحث عن عقله
كيف تحصي ربة المنزل
النقود المتبقية في محفظتها
ويدها ترتجف
كيف تجرُّ أم مراهقة طفلها الأول بيد
وبيدها الأخرى تدفع عربة ينام فيها طفلها الثاني
في الطريق لاقتناء وصفة لمنع الحمل
كيف تُخرج العجوز من عبها
على عجل مرآة صغيرة
مجرّحة الحواف
كلما مرّ ظل يشبه حبيبها
الذي لم يعد من فيتنام
لأن الحرب لم تنتهِ بعد
كيف تمسح الجدة بمنديلها
المخاط عن خد حفيدتها اليتيمة
ثم تجفف قلبها بنفس المنديل
كيف تدخن امرأة في ثلاثينياتها
بشراهة كأنها تمارس الحب مع رجل
هجرها وعاد إلى حضن أمه
كيف تواري أم الطفل المنغولي
وجهها عن أعين المارة
وهم يبتسمون لكلمات أغنيته البذيئة
كيف تٓصرُ المقاعد الخشبية
متململة تحت مؤخرات كل هؤلاء
اذهب ياصديقي
وراقبني
كيف أراقبهم
بحسد وحسرة.
................
على مقعد الدرجة الثانية
ها أنا آخذكِ معي حيثما أمضي
المسافرون غاضبون منكِ ومني
أُجّلت الرحلة
السماء مشغولة بالقذائف
وحاشية المطار
تعاملوا معنا بفظاظة
وكأننا مخموران وقعا أرضاً
فأساءا لمزاج الحفلة
وبالا على السجاد الثمين
لم تعد وقاحتنا تُحتمل
نُصاب ونُقتل ولا نموت
ويظنون
أن الحزن الذي نحمله معنا
دائماً
كوزن زائد
سيُغرق طائرتهم في البحر
اللعنة علينا
هكذا يتهامسون
استريحي يا صغيرتي
لن تأتي مضيفة واحدة
لتربّتٓ بإظفرها المدبب
على رأسك فوق حضني
شعرك الأسود
يخيف الغرباء
ولن يتحرّش بي جاري المسافر
فيسألني عن اسمكِ
وعمركِ
وما اللغة الغريبة التي
أهدهدكِ بها
لتنامي
لا أحد في الطائرة
غيرنا
أنا وأنتِ فقط
على مقعد الدرجة الثانية
ننتظر موعد الهبوط
منذ ثلاث سنوات
استريحي
تمسّكي بأصابعي
لن تخذلكِ.
.......
حفلة صيد
قالوا: بدأت حفلة الصيد
فهبّ رجال القبيلة لسن الرماح
وخرجتٓ معهم
لم أعد أسمع نقراتك الخفيفة
على بابي الخشبي
منذ زمن طويل
مشغول أنت الآن
بغزْلِ أسوار الحديد
أو ربما ببيع أصابعي
وشراء خواتم بفصوص لامعة للجنود
ربما تقايض كفَّ جدّي بجرّافة
أو ربما تزرع ألغاماً في حديقة ما
ربما تعمل دليلاً سياحياً في الغابة
تقود الغرباء إلى أوجرة الثعالب الصغيرة
لاختيار ألوان معاطفهم
وهم يهدونك قلائد من أنياب الفيلة
لكن الحرب "للأسف"
ستنتهي
مثل كل الحروب
وسيأتي يوم
تعود فيه مزهواً بالنصر
يغطيك ريش أحمر
وذراعك المقطوعة
حصتك من الغنيمة
وستدقُّ على بابي طويلاً
وأقسم ألاّ أفتح
إلى أن تطوي الدربُ الترابية ظلكَ
من جديد.
.............
رسالة إلى الله (رقم 1)
هل رأيتٓهم
بواريدهم تنتظرهم في كتاب،
ريثما يُعدّون لحرب جديدة.
صواريخهم
من السهل أن تصطاد مجرة.
أكياسهم
تتسع لجثة غابة.
حبالهم
تسد النافذة
وتشد أخوتي للبئر
واحداً بعد الآخر.
هل رأيتهم
في بيتكٓ ناموا مطمئنين،
وأمي ترتجف بين أوتاد الخيام،
ومجاديف القوارب المكسورة.
هل رأيتهم
يحاصرون سور مدرستنا
منذ خمسة عقود،
ينصبون لنا فخاً في كل صف،
وكنا نعود البيت
ناقصين فرخاً كل يوم.
هل رأيتهم
ملثمون مازالوا،
غيّروا قبضة الخنجر
لكن العتمة نفسها في قعر العين.
هل رأيتهم
كيف اتحدوا فجأة باسمك،
وحولوك مرة لنجمتين،
ومرة لسيفين،
ولونوا الدم مرة بالأخضر،
ومرة بالأسود.
هل رأيتهم
يخرجون في جنازة أمي
ويتوضؤون مع قاتلها في بيتك.
هل رأيتهم
ونسيتٓ أن تعدهم بعذاب عظيم
كما وعدتٓ!
رسالة إلى الله (رقم 2)
هل أنتَ من أرسلهم
ليركضوا براية سوداء بين أشجارنا!
ولماذا كلما علا صوت تكبيراتهم
ينخفض مستوى الماء في الفرات!
ولماذا تتدلى قدم طفلي بصمت عن حافة الفراش!
وزقزقته لا تصل حافة النافذة!
هذه ليست حربك
وليست حرب الفرات
ولا حرب طفلي
ولا حرب البوليو
هذه وليمة لأمساخ الكون
وطفلي يطالبك ويطالبني بإيضاح
قبل أن يسامح الطريق
ورفيقه الذي يركض الآن في باحة المدرسة.
............
كذب بريء
لا أكذب عليكِ إن قلت
أن أزيز المكيفات ومحركات السيارات هنا
يشبه أصوات القصف عليكِ هناك
وأني كلما رفعت رأسي نحو سقف
أو أسندت ظهري إلى جدار
أخشى أن يسقط عليكِ.
لا أكذب إن قلت لكِ
إني لم أعد أحتاج لمد ذراعي
كي أضم حبيبي
فشبحي يفعل كل شيء عني.
وحين أقول لكِ كل هذا
إياكِ أن تصدقيني
فأنا مازلت بخير
أشد ابني كلما شئت إلى صدري
وأشتري مكسرات وقهوة وسجائر
والكهرباء لا تقطع أخباركِ عني
من على الكنبة أو كرسي المكتب
أدخل بحماس إلى حفرتك
المليئة بالجنود
والقهر
والأكفان
هناك حيث أنتِ
بعيدة ومغلولة
ومحاصرة بالديدان.
شيء واحد عليكِ أن تصدقيه
أن إحساسي بالخجل من الأموات
يرغمني أن أكذب عليكِ
وأن المسافة التي أقطعها
كي أهمس لكِ بكلماتي التافهة
أطول من كل خطوط الطول والعرض
في هذا العالم
المبتور الأوصال.
..........
سؤال
لماذا لم تطلب منهم على الأقل
دفع ثمن الرصاصات
التي أفرغتها منذ ساعات في رأس جارك!
ألم يرسلوك إليه وحيداً محنياً
بذراعٍ وحيدة وعينٍ وحيدة
وكفٍ بإصبعٍ وحيدٍ معكوف!
كان عليك قبل أن تحشو مسدسك
التفتيش في جيوبهم عن حِرز أمك
وقِرط حبيبتك وقميص أخيك!
كان عليك أن تطالبهم
بثمن تلك الرصاصات على الأقل
لتشتري حذاءً جديداً وكفناً لائقاً
وتستأجر نادبة ومعزين
ودموعاً ليوم موتك!
............
قريباً
قريباً سينفد البحر
الذي تبتلعه الآن
عيون الأمهات
فغداً بانتظارهن
الكثير من البكاء
قريباً سينفد البشر
وسينام أهل البلد
ثلاثمئة وتسع سنين أخرى
ولن يبقى
من الخوف أو البكاء أو الندم
سوى بضع دفلات
على القبور
وحفنة قروش
في كعب
محفظة الجنود.
...................
عَلَم
أيها العٓلٓم
كم من الجثث مدفونة تحت ناصيتك
كم من الأصدقاء والغرباء قتلتٓ
بصماتهم محفورة كوشم
على قماشك العريق
قماشك
المرصع بالخطوط الحمر
والنجوم البيض
كم من الأكف تشققت
في المناجم
وخطوط المصانع
والخنادق
كي تحلّق بجناحك
جناحك
الذي مازال عالقاً
رغم كل شئ
في حديد القفص.
.............
انتصارات
شاحنة الجنود المنتصرين
تعبر الشارع مسرعة
تدور في الباحة الواسعة للمدينة الصغيرة
تهبط منها حزمة أحذية
المشهد مكتمل
لا ينقص سوى أن ترمش عين الكاميرا
في وجه الخوذات وفوهات البنادق المسنونة نحو الغيمة
ثم ينفضّ الجنود
وتضيق أنفاس الشبابيك
في البيوت المجاورة
وراء الأبواب المغلقة بقفل
ثكالى كُثر
وأمهات من غير أجنحة
وأولاد كانوا منذ دقائق معدودة
يمدون رؤوسهم المغبرة من فوهة العدسة
وجدة في الزاوية صامتة
تحدّق إلى ثلاثة وجوه تبتسم على الجدار
من غير شريطة سوداء
وتتساءل:
من كان منهم سيهبط قبل الآخر
من شاحنة الجنود المنتصرين
لو أنها لم تمطر؟
................
في اللحظة الأخيرة
الجندي،
الذي كلما حمل بندقيته
وثنى إصبعه على الزناد،
تأتي أمه وتفردها برفق،
وتردُهُ إلى صدرها،
هو وحده
لم يضحك في الحرب،
ووحده
لن يبكي بعد كل انتصار.
.............
موت
الزهور على قبره
قطفتها من فستاني الذي لأجله أرتديته
فستاني صار بدون أزهار
لقد ماتَ
أنظرُ حولي
قبور كثيرة تحتاج لزهرة
إنه ميت.
……………..